الصناعةبيئةتحقيقات وتقاريرتغير المناخنفايات

كارثة بوبال سنة 1984.. من أسوأ الكوارث الصناعية في تاريخ البشرية

كارثة بوبال” -أو كارثة “يونيون كاربايد”- إحدى أسوأ الكوارث الصناعية في تاريخ البشرية. أودت بحياة الآلاف من سكان مدينة بوبال (وسط الهند) والمناطق المجاورة لها، حينما تسرب ما يقرب من 30 طنا من غاز الميثيل أيزوسيانات المميت في الهواء -مساء الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1984- من مصنع مبيدات حشرية تابع لشركة “يونيون كاربايد” (Union Carbide) الأميركية.

استيقظ السكان صباح الكارثة وهم في حالة من الرعب، وقد أصيبوا بالاختناق وأجسادهم محترقة، باحثين بشكل يائس عن أقربائهم، وهم يحاولون الفرار من سحب البخار السام المنتشر في سماء مدينة بوبال ونواحيها.

أسباب كارثة بوبال

تقع مدينة بوبال -التي يقطنها نحو مليون نسمة- في منطقة ماديا براديش الهندية الواقعة بين نيودلهي وبومباي.

توجد في المدينة منطقة جاي براكاش ناجار الفقيرة، حيث مصنع يونيون كاربايد الأميركي لمبيدات الحشرات، الذي تسبب في أسوأ كارثة صناعية خلال القرن الـ20، وما زالت المنطقة تعاني من أضرارها الصحية والبيئية حتى القرن الـ21.

بدأت الأزمة بعدما انفجرت خزانات الغازات السامة التي كان يستخدمها المصنع في صناعة المبيدات الحشرية، مثل غاز ميثيل أيزوسيانات الذي يندرج ضمن الغازات الخطرة، جراء عطل في أنظمة السلامة بسبب ضعف صيانتها وعدم تنظيفها وتجديدها، بالإضافة إلى ضعف كفاءة وخبرة العاملين الذين تم تشغيلهم من دون تدريب أو تأهيل لقاء أجور منخفضة.

ومساء الأحد الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1984، كان حوالي 100 عامل يعملون على صنع المبيد “سيفين” (Sevin)، وذلك بخلط “رباعي كلوريد الكربون” وميثيل أيزوسيانات (MIC) و”ألفا نابثول”. وبعد نحو 12 ساعة من العمل، أدت سلسلة من الأخطاء الفادحة إلى كارثة إنسانية.

أطفال من الجيل الثالث لضحايا كارثة بوبال يحضرون وقفة احتجاجية لإحياء ذكرى الكارثة عام 2018 (الفرنسية)

بداية الكارثة

كان مصنع المبيدات الحشرية -يونيون كاربايد- يحتوي على 3 خزانات مدفونة جزئيا بسعة 15 ألف غالون، حيث يتم تخزين غاز ميثيل أيزوسيانات. وكانت هذه الخزانات تعاني من مشكلة ضعف أنظمة السلامة وغياب الصيانة.

ولاستخراج ميثيل أيزوسيانات، يقتضي الأمر ضغطا عاليا على غاز النيتروجين، لكن العملية لم تتم بشكل صحيح في ذلك اليوم، في حين كان غاز ميثيل أيزوسيانات وغاز النيتروجين يتسربان إلى خارج المصنع.

وقبل منتصف الليل بساعة تقريبا، بدأت المقاييس تشير إلى مستوى خطير من الضغط ودرجة الحرارة التي وصلت إلى 200 درجة مئوية في الخزانات، لكن العمال حسبوا أن أداة ما معطلة، ولم يتخذوا أي إجراء لاحتواء الأمر، ظنا منهم أن المشكلة ليست على درجة كبيرة من الخطورة.

وبعد نصف ساعة تقريبا، بدأت أجساد العمال الذين كانوا بالقرب من الخزانات تتأثر بالغازات المتسربة من الخزانات، وهو شعور لم يكن غريبا على كل العمال، لأنه كان يحدث بشكل متكرر. وحتى ذلك الحين، قرر أحد المشرفين بالمصنع الانتظار إلى ما بعد استراحة الشاي للنظر في الأمر.

وبحلول ذلك الوقت، كانت المشكلة قد خرجت عن السيطرة، وانتهى الأمر بانفجار المصنع عند الساعة 12:15 بعد منتصف الليل، مخلفا حالة من الخوف والذعر جراء الكارثة التي تسبب فيها هذا الانفجار.

بعد هذا الانفجار، حاول رجال الإطفاء منع الغاز من التسرب خارج المصنع باستخدام الماء، لكنهم فشلوا في ذلك، كما أن جهاز تنفيس الغاز، الذي يعمل على منع انتشار الغازات السامة تعطل بالكامل. ووسط حالة الفوضى، هرب سائقو سيارات الطوارئ، بدلا من نقل العمال إلى بر الأمان.

والأسوأ من ذلك أن مسؤولي المصنع لم يبلغوا السلطات المحلية على الفور بما يجري، وادّعوا لاحقا أن الهواتف كانت خارج الخدمة.

أطفال يلعبون الكريكيت داخل أطلال مصنع يونيون كاربايد في بوبال يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 (الفرنسية)

صباح يوم الثالث من ديسمبر/كانون الأول 1984، كان السكان الذين يقطنون بجوار المصنع قريبين بما يكفي لسماع صوت صفارات الإنذار وإخلاء المكان، لكنهم تجاهلوا ذلك، لأنهم اعتادوا على سماعها في المصنع قبل ذلك بشكل متكرر للغاية، وظنوا أن الأمر روتيني ولا يعدو أن يكون بسيطا.

أما الطقس الذي كان باردا في تلك الفترة، فقد جعل غاز ميثيل أيزوسيانات السام -الذي كان يجتاح بوبال بصمت- قريبا من الأرض. وكان الأطفال وكبار السن والمرضى هم الأكثر تضررا بالغازات السامة التي سببت لهم على الفور القيء وصعوبة التنفس. وامتلأت مستشفيات المنطقة، التي لم تكن مستعدة لهذه الكارثة، بأعداد كبيرة من المرضى والوفيات.

كان من المستحيل -في بداية الأمر- تحديد أعداد ضحايا هذه الكارثة بدقة، نظرا للأعداد الكبيرة التي كانت تتساقط خصوصا في الساعات الأولى للحادث، بالإضافة لمن أصيبوا بعاهات مستديمة كالعمى وفقدان الذاكرة وتلف الأعصاب وشلل الأطراف ومشاكل في النوم وفي الجهاز الهضمي.

الخسائر البشرية جراء كارثة بوبال

وعلى مستوى الخسائر البشرية، قالت مؤسسة يونيون كاربايد إن 3800 شخص لقوا حتفهم، وأصيب الآلاف بإعاقات دائمة أو مؤقتة بسبب تسرب الغاز السام، وهو الرقم الذي لم تطعن في صحته الحكومة الهندية.

لكن العديد من المنظمات غير الحكومية الهندية -التي تناضل من أجل العدالة نيابة عن ضحايا كارثة بوبال- تقول إن العدد الحقيقي للقتلى أعلى من ذلك بكثير. وقالت الناشطة الحقوقية في منظمة السلام الأخضر، كارونا راينا، “إنه قُتل ما لا يقل عن 7 آلاف شخص في أول 72 ساعة من التسريب”.

وأضافت أن أكثر من 25 ألف شخص ماتوا منذ ذلك الحين جراء أمراض مرتبطة بتعرضهم لغاز ميثيل أيزوسيانات السام.

كما أن تلوث التربة والمياه أدى بدوره إلى زيادة أعداد الأطفال الذين يولدون بتشوهات خلقية في المنطقة. وتقول المنظمة الطبية “نداء بوبال الطبي”، وهي مؤسسة خيرية مقرها المملكة المتحدة تدعم بعض المصحات في بوبال التي تهتم بعلاج ضحايا الكارثة، إن أكثر من 120 ألف شخص ما زالوا يعانون من الأمراض الناجمة عن الحادث والتلوث الناتج في موقع المصنع.

تأثير كارثة بوبال يطول الجيلين الثاني والثالث من سكان المنطقة مما يسبب تشوهات في الأجنة (الفرنسية)

ما بعد كارثة بوبال

لا يزال التأثير المتواصل لكارثة بوبال يطارد الجيلين الثاني والثالث من سكان بوبال، وحتى أولئك الذين لم يولدوا بعد، ففي عام 2019، سجل “مركز أطفال شينغاري” لرعاية الأطفال -الذي أنشئ خصيصا للأشخاص الذين ولدوا معاقين نتيجة الكارثة- أن أكثر من ألف طفل بالمنطقة يعانون الشلل الدماغي وضمور العضلات والتوحد والإعاقات الذهنية وصعوبات التعلم الشديدة.

وقالت مديرة المركز -في تصريح صحفي لصحيفة “غارديان” (The Guardian) البريطانية- “هذا هو الإرث الرهيب لبوبال، كل هؤلاء الأطفال ولدوا لأبوين، أو حتى أجداد، كانوا على اتصال بالغاز في تلك الليلة. الوضع يزداد سوءا، نحن نرى المزيد والمزيد من أطفال الجيلين الثاني والثالث يولدون بهذه الإعاقات ويأتون إلى هنا. مأساة بوبال لم تتوقف”.

وقد أظهرت الأبحاث الاستقصائية التي أجرتها “مجموعات حملة بوبال” أن النفايات السامة التي كان يلقيها المصنع حتى قبل انفجاره، تحتوي -وفقا لاختبارات وتحاليل أجريت عليها- على 6 من الملوثات العضوية المحظورة من قبل الأمم المتحدة، نظرا لتأثيراتها شديدة السمية على البيئة وصحة الإنسان، ووصل انتشارها إلى 42 منطقة في بوبال.

كما أن البركة الكبيرة التي كان يستخدمها مصنع يونيون كاربايد لإلقاء المواد الكيميائية التي كان يستعملها، ما زالت موجودة وتحتوي على مياه ملوثة وآسنة، ولم يتم إجراء أي عملية تنظيف لها من هذه النفايات الكيميائية الموجودة بها.

وفي سنة 1999، كشفت الاختبارات المحلية للمياه الجوفية ومياه الآبار بالقرب من موقع الحادث عن وجود مادة الزئبق بمستويات مرتفعة، تتراوح ما بين 20 ألفا و6 ملايين مرة أكثر من المستويات المتوقعة.

كما تم العثور على المواد المسرطنة في الماء وتلك المسببة في تلف الدماغ، بالإضافة إلى المواد الكيميائية المسببة لعيوب الولادة، وكذلك مادة ثلاثي كلورو إيثين، وهي مادة كيميائية تضعف نمو الجنين، بمستويات أعلى 50 مرة من المعدل العادي.

معرض نظم بروما في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2014 بمناسبة الذكرى الـ30 لكارثة بوبال (الفرنسية)

وعام 2002، كشفت اختبارات أخرى عن وجود سموم مثل ثلاثي كلورو البنزين، وثنائي كلورو ميثان، والكلوروفورم، والرصاص، وكذلك الزئبق في حليب الأمهات المرضعات.

وقبل ذلك بسنة، أي عام 2001، كانت شركة المواد الكيميائية “داو كيميكال” (Dow Chemical) -وهي الأخرى أميركية ومقرها ميشيغان- قد اشترت شركة يونيون كاربايد، وحصلت بالتالي على أصولها والتزاماتها، ورفضت بشكل قاطع تنظيف موقع الكارثة، وتوفير مياه صالحة للشرب للسكان، وتعويض الضحايا والكشف حتى عن تركيبة الغاز المسرب، وهي المعلومة التي يحتاجها الأطباء لاستخدامها في علاج الضحايا بشكل صحيح.

المتابعات القضائية في كارثة بوبال

ظل تحقيق العدالة الفعلية وجبر الضرر لفائدة ضحايا كارثة بوبال بعيد المنال، وكان أول تعويض يمنح لهم سنة 1989، عندما وافقت يونيون كاربايد على تسوية جزئية مع الحكومة الهندية، ودفعت حوالي 470 مليون دولار تعويضا لسكان المنطقة المنكوبة.

رأت المنظمات الحقوقية التي كانت تتولى مهمة الدفاع عن ضحايا الكارثة هذا التعويض “مخجلا”، وتم انتقاده على نطاق واسع لأنه غير كاف ولا يرقى لمستوى الضرر الذي لحق بسكان بوبال، حيث حصل معظمهم على 25 ألف روبية فقط (أي ما يعادل 300 دولار أميركي)، بينما لم يتلق البعض الآخر شيئا. ولا يزال غالبية الناجين يعيشون بالقرب من موقع الكارثة السام.

وفي سنة 1991، اتهمت الحكومة المحلية في بوبال الأميركي وارن أندرسون -الذي كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة يونيون كاربايد حينما وقعت الكارثة- بالقتل غير المتعمد، لتقاعسه في إصلاح أنظمة السلامة بالمصنع.

ومع ذلك، لم يقدَّم أندرسون للمحاكمة، وشهد طلب الهند حينها -بتسليم المتورطين الأميركيين في الحادث وعلى رأسهم أندرسون- تعثرا لفترة طويلة من دون أي رد من المسؤولين الأميركيين إلى أن توفي وارن أندرسون سبتمبر/أيلول 2014، قبل بضعة أشهر من الذكرى الـ30 للكارثة.

وهكذا تُرك الضحايا في بوبال لحالهم يطالبون بحقوقهم وحقوق ذويهم، وطُلب منهم الدفاع عن أنفسهم لأن المديرين المباشرين لشركة يونيون كاربايد، خاصة الأميركيين، كانوا يتهربون من العدالة، وحتى شركة داو كيميكال التي استحوذت على أصول يونيون كاربايد تهربت من الوفاء بالتزاماتها القانونية والأخلاقية في بوبال.

لم يقضِ أي من المسؤولين الهنود الثمانية الذين أدينوا عام 2010 بتهمة الإهمال عقوبتهم في السجن (الفرنسية)

وفي سنة 2010، أي بعد مرور حوالي ربع قرن أصدرت محكمة في الهند أحكاما قضائية بحق 8 أشخاص هنود لتسببهم في كارثة بوبال، ووجهت المحكمة تهمة “القتل بالإهمال” إلى المتهمين الثمانية الذين كانوا جميعهم عمالا سابقين في المصنع، وهي التهمة التي لا تتجاوز مدة عقوبتها سنتين سجنا؛ الأمر الذي رآه ناشطون حقوقيون “حكما مخففا ومتأخرا جدا”.

ويعد هذا الحكم هو الإدانة الفعلية الأولى من نوعها منذ وقوع تلك الكارثة، والأسوأ من هذا كله، أنه لم يقضِ أي من المسؤولين الهنود الثمانية الذين أدينوا عام 2010 عقوبتهم في السجن، كما أنه لم يمثُل ممثلو مصنع يونيون كاربايد أمام المحكمة مطلقا.

إغلاق